فصل: تفسير الآيات (27- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (24):

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}
قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: ذوات الأزواج، لا يحل للغير نكاحُهُنّ قبل مفارقة الأزواج، وهذه السابعة من النساء اللاتي حُرّمت بالسبب.
قال أبو سعيد الخدري: نزلت في نساء كُنَّ يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين، ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهى الله المسلمين عن نكاحهن، ثم استثنى فقال: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: السبايا اللواتي سُبين ولهن أزواج في دار الحرب فيحِلُّ لمالِكِهنَّ وطؤهنَّ بعد الاستبراء، لأن بالسبي يرتفع النكاح بينها وبين زوجها.
قال أبو سعيد الخدري: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين جيشًا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين، فكرهوا غشيانهن، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عطاء: أراد بقوله: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أن تكون أمته في نكاح عبدِهِ فيجوز أن ينزعَها منه.
وقيل: أراد بالمحصنات الحرائر، ومعناه: أن ما فوق الأربع حرام منهن إلا ما ملكت أيمانُكم، فإنه لا عدد عليكم في الجواري.
قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} نصب على المصدر، أي: كتب الله عليكم كتاب الله، وقيل: نصب على الإغراء، أي: الزموا كتاب الله عليكم، أي: فرض الله تعالى.
قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص {أُحِل} بضم الأول وكسر الحاء، لقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} وقرأ الآخرون بالنصب، أي: أحلّ الله لكم ما وراء ذلكم، أي: ما سوى ذلكم الذي ذكرتُ من المحرمات، {أَنْ تَبْتَغُوا} تطلبوُا، {بِأَمْوَالِكُم} أي تنكحوا بصداق أو تشترُوا بثمن، {مُحْصِنِينَ} أي: متزوجين أو مُتَعفِّفين، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي: غير زانين، مأخوذُ من سَفْحِ الماء وصبِّه وهو المنيُّ، {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} اختلفوا في معناه، فقال الحسن ومجاهد: أراد ما انتفعتم وتلذَّذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح، {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن، وقال آخرون: هو نكاح المتعة وهو أن ينكح امرأة إلى مدة فإذا انقضت تلك المُدَّة بانَتْ منه بِلا طلاق، وتستبرئ رحمها وليس بينهما ميراث، وكان ذلك مباحًا في ابتداء الإسلام، ثم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا محمد بن عبد الله بن نمير، أنا أبي، أنا عبد العزيز بن عمر، حدثني الربيع بن سبرة الجهني، أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إني كنت أذنْتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله تعالى قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخَلِّ سبيلَه ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعةِ النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية.
وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم: أن نكاح المتعة حرام، والآية منسوخة.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يذهب إلى أن الآية محكمة، ويُرخِّص في نكاح المتعة. ورُوي عن أبي نضرة قال سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن المتعة، فقال: أما تقرأ في سورة النساء: {فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى}؟ قلت: لا أقرأها هكذا، قال ابن عباس: هكذا أنزل الله، ثلاث مرات.
وقيل: إن ابن عباس رضي الله عنهما رجع عن ذلك.
ورَوى سالم عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؟، لا أجدً رجلا نكحها إلا رجمتُه بالحجارة، وقال: هدم المتعةَ النكاحُ والطلاقُ والعدةُ والميراثُ.
قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: لا أعلم في الإسلام شيئا أحلّ ثم حُرّم ثم أُحلّ ثم حُرّم غيرَ المتعة.
قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورَهنّ، {فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} فمن حمل ما قبله على نكاح المتعة أراد أنهما إذا عَقَدَ عقدًا إلى أجل بمال فإذا تم الأجل فإن شاءت المرأة زادتْ في الأجل وزاد الرجل في الأجر، وإن لم يتراضيا فارقها، ومن حمل الآية على الاستمتاع بالنكاح الصحيح، قال المراد بقوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} الإبراء عن المهر والافتداء والاعتياض {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فصل في قدر الصداق وفيما يستحب منه.
اعلم أنه لا تقدير لأكثر الصداق لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} والمستحب أن لا يغالى فيه، قال عمر بن الخطاب: ألا لا تغالوا صدقة النساء فإنها لو كانت مَكْرُمة في الدنيا وتقوىً عند الله لكان أولاكم بها نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم ما علمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئًا من نسائه ولا أنكح شيئًا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا جعفر بن محمد المفلس، أنا هارون بن إسحاق، أنا يحيى بن محمد الحارثي، أنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونَشًا، قالت: أتدري ما النش؟ قلتُ: لا قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمائة درهم، هذا صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه.
أما أقل الصداق فقد اختلفوا فيه: فذهب جماعة إلى أنه لا تقدير لأقلّه، بل ما جاز أن يكون مبيعًا أو ثمنًا جاز أن يكون صداقًا، وهو قول ربيعة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق، قال عمر بن الخطاب: في ثلاث قبضات زبيب مهر، وقال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا جاز.
وقال قوم: يتقدر: بنصاب السرقة، وهو قول مالك وأبي حنيفة، غير أن نصاب السرقة عند مالك ثلاثة دراهم وعند أبي حنيفة عشرة دراهم.
والدليل على أنه لا يتقدر: ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي، قال: أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قيامًا طويلا فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجْنيها إن لم يكن لك فيها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عندكَ من شيءٍ تصدقُها»؟ قال: ما عندي إلا إزاري هذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعطيتها جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا»، فقال: ما أجد، فقال: «فالتمسْ ولو خَاتمًا من حديد»، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل معك من القرآن شيء»؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا- لسور سمّاها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد زوجتُكَها بما معك من القرآن».
وفيه دليل على أنه لا تقدير لأقل الصداق، لأنه قال: «التمس شيئًا» فهذا يدل على جواز أي شيءٍ كان من المال، وقال: «ولو خاتمًا من حديد» ولا قيمة لخاتم الحديد إلا القليل التافه.
وفي الحديث دليل على أنه يجوز تعليم القرآن صداقًا وهو قول الشافعي رحمه الله، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز، وهو قول أصحاب الرأي، وكل عمل جاز الاستئجار عليه مثل البناء والخياطة وغير ذلك من الأعمال جاز أن يجعل صداقًا، ولم يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه أن يجعل منفعة الحرِّ صداقًا، والحديث حجة لمن جوّزه بعدما أخبر الله تعالى عن شعيب عليه السلام حيث زوّج ابنته من موسى عليهما السلام على العمل، فقال: {إنّي أريد أن أُنِكحَكَ إحدَى ابنتيَّ هاتين على أن تأْجُرَني ثمانيَ حِجَج} [القصص- 27].

.تفسير الآية رقم (25):

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} أي: فضلا وسعة، {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} الحرائر {الْمُؤْمِنَاتِ} قرأ الكسائي {الْمُحْصنِاتِ} بكسر الصاد حيث كان، إلا قوله في هذه السورة والمحصنات من النساء، وقرأ الآخرون بفتح جميعها، {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُم} إمائكم، {الْمُؤْمِنَاتِ} أي: من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة، فليتزوج الأمة المؤمنة.
وفيه دليل على أنه لا يجوز للحرّ نكاح الأمة إلا بشرطين، أحدهما: أن لا يجدَ مهرَ حرةٍ، والثاني أن يكون خائفًا على نفسه من العَنَتِ، وهو الزنا، لقوله تعالى في آخر الآية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} وهو قول جابر رضي الله عنه، وبه قال طاوس وعمرو بن دينار، وإليه ذهب مالك والشافعي.
وجوّز أصحاب الرأي للحرّ نكاح الأمة إلا أن تكون في نكاحه حرة، أمّا العبد فيجوز له نكاح الأمة وإن كان في نكاحه حرة أو أمة، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز إذا كانتْ تحته حرّة، كما يقول في الحرّ.
وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية لأنه قال: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُم المؤمنات} جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة، وقال في موضع آخر: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامَكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} [المائدة- 5] أي: الحرائر، جوز نكاح الكتابية، بشرط أن تكون حرّة، وجوّز أصحاب الرأي للمسلم نكاح الأمة الكتابية، وبالاتفاق يجوز وطؤها بملك اليمين.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} أي: لا تتعرضوا للباطن في الإيمان وخُذوا بالظاهر فإنّ الله أعلم بإيمانكم.
{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} قيل: بعضكم إخوة لبعض، وقيل: كلكم من نفس واحدة فلا تستنكفُوا من نكاح الإماء، {فَانْكِحُوهُن} يعني: الإماء {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي: مواليهن، {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن، {بِالْمَعْرُوف} من غير مَطل وضرار، {مُحْصَنَاتٍ} عفائف بالنكاح، {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} أي: غير زانيات، {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} أي: أحباب تزنون بهن في السرّ، قال الحسن: المسافحة هي أن كل من دعاها تبعتْه، وذات أخدان أي: تختص بواحد لا تزني إلا معه، والعرب كانت تحرم الأولى وتجوّز الثانية، {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بفتح الألف والصاد، أي: حفظن فروجهن، وقال ابن مسعود: أسلمنَ، وقرأ الآخرون: {أُحْصِنّ} بضم الألف وكسر الصاد، أي: زُوِّجْن {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} يعني: الزنا، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} أي: ما على الحرائر الأبكار إذا زنين، {مِنَ الْعَذَابِ} يعني: الحدّ، فيُجلد الرقيق إذا زنى خمسين جلدة، وهل يُغَرّب؟ فيه قولان، فإن قلنا يغرّب فيغرّب نصف سنة على القول الأصح ولا رجم على العبيد.
رُوي عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: أمرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتية من قريش فجلدنا وَلائِدَ من وَلائِدَ الإمارة خمسين في الزنا.
ولا فرق في حدّ المملوك بين من تزوج أو لم يتزوج عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أنه لا حدّ على من لم يتزوج من المماليك إذا زنى، لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال طاوس.
ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلام، وإن كان المراد منه التزويج فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحدّ عليه، بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصنًا بالتزويج فلا رجْمَ عليه، إنّما حدُّه الجلد بخلاف الحرّ، فحدّ الأمة ثابت بهذه الآية، وبيان أنه بالجلد في الخبر وهو ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني الليث، عن سعيد يعني المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا زنت أمةُ أحدكم فتبينَ زناها فَلْيجلدها الحدّ ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعْها ولو بحبلٍ من شعر».
قوله تعالى: {ذَلِك} يعني: نكاح الأمة عند عدم الطَّول، {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} يعني: الزنا، يريد المشقةَ لغلبةِ الشهوة، {وَإِنْ تَصْبِرُوا} عن نكاح الإماء متعففين، {خَيْرٌ لَكُمْ} لئلا يخلق الولد رقيقًا {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

.تفسير الآية رقم (26):

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: أن يبين لكم، كقوله تعالى: {وأمرت لأعدل بينكم} [الشورى- 15] أي: أن أعدل، وقوله: {وأمرنا لِنُسلمَ لرب العالمين} [الأنعام- 71]، وقال في موضع آخر {وأُمرتُ أن أسلم} [غافر- 66].
ومعنى الآية: يريد الله أن يبين لكم، أي: يوضح لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم، قال عطاء: يبين لكم ما يقربكم منه، قال الكلبي: يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم، {وَيَهْدِيَكُم} ويرشدكم، {سُنَنَ} شرائع، {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} في تحريم الأمهات والبنات والأخوات، فإنها كانت محرمة على من قبلكم.
وقيل: ويهديكم الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام، {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم، وقيل: يرجع بكم من المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته، وقيل: يوفقكم للتوبة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم، {حَكِيمٌ} فيما دبر من أمورهم.

.تفسير الآيات (27- 29):

{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)}
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} إن وقع منكم تقصير في أمر دينه {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا} عن الحق، {مَيْلا عَظِيمًا} بإتيانكم ما حرّم عليكم، واختلفوا في الموصوفين باتّباع الشهوات، قال السدي: هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم: هم المجوس لأنهم يُحلّون نكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت، وقال مجاهد: هم الزناة يريدون أن تميلوا عن الحق فتزنون كما يزنون، وقيل: هم جميع أهل الباطل.
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} يسهلَ عليكم في أحكام الشرع، وقد سهل كما قال جلّ ذكره: {ويضع عنهم إصرهم} [الأعراف- 157] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثتُ بالحنيفية السمحة السلهة»، {وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا} قال طاووس والكلبي وغيرهما في أمر النساء: لا يصبر عنهن، وقال ابن كيسان: {وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا} يستميله هواه وشهوته، وقال الحسن: هو أنه خلق من ماء مهين، بيانه قوله تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف} [الروم- 54].
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} بالحرام، يعني: بالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة ونحوها، وقيل: هو العقود الفاسدة {إلا أن تكون تجارة}، قرأ أهل الكوفة {تِجَارَةً} نصب على خبر كان، أي: إلا أن تكون الأموال تجارةً، وقرأ الآخرون بالرفع، أي: إلا أن تقع تجارةٌ، {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} أي: بطيبة نفس كل واحد منكم.
وقيل: هو أن يجيز كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع، فيلزم، وإلا فلهما الخيار ما لم يتفرقا لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المتبايعان كلُّ واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار».
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال أبو عبيدة: أي لا تُهلكوها، كما قال: {ولا تُلقوا بأيديكم إلى التَّهْلُكة} [البقرة- 195]، وقيل: لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل.
وقيل: أراد به قتل المسلم نفسه، أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا ابن عيينة، عن أيوب، عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة».
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي، أخبرنا أبو معاذ عبد الرحمن المزني، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن حماد القاضي، أنا أبو موسى الزَّمِن، أنا وهب بن جرير، أخبرنا أبي، قال سمعت الحسن: أخبرنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرج برجل فيمن كان قبلكم أرابٌ فجزع منه، فأخرج سكينًا فحزَّ بها يده فما رقأ الدمُ حتى مات فقال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه فَحَرَّمْتُ عليه الجنة».
وقال الحسن: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} يعني: إخوانَكم، أي: لا يقتل بعضُكم بعضًا، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا سليمان بن حرب، أنا شعبة، عن علي بن مدرك، قال: سمعت أبا زرعة بن عمرو بن جرير عن جده قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «استنصت الناس» ثم قال: «لا ترجعُنَّ بعدي كفارا يضرب بعضُكم رقابَ بعض».